في البداية أود أن أبدي تقديري لأصحاب الأرض التقليديين وشعب الاينورا واحترامي لحكمائهم في الماضي والحاضر.
في هذا المقال، سأصحبكم في رحلة نتعرف فيها على هذا اليوم بعيون السكان الأصليين.
يحل اليوم ذكرى وصول الاسطول الأول من بريطانيا بقيادة الكابتن آرثر فيليب إلى سواحل سيدني في عام 1788 وإعلان بدء المستعمرة الأولى نيو ساوث ويلز، ولكن هل هذا كل ما حدث في ذلك اليوم الهام؟التاريخ يروي أنه في مثل هذا اليوم وصلت احدى عشر سفينة من بريطانيا لمنطقة بورت جاكسون بنيو ساوث ويلز، حيث رفع الكابتن فيليب العلم البريطاني على المنطقة.
The First Fleet arrives at Sydney Cove on the 26 of January 1788. Source: ABC
منذ الأيام الأولى للمستعمرة البريطانية، احتفلت سيدني بيوم 26 يناير باستخدام أسماء مختلفة، مثل يوم الذكرى ويوم الإنزال الأول ويوم التأسيس، تطور هذا تدريجيًا إلى "يوم أستراليا"، واعتمدت الولاياتُ والأقاليم الأخرى الاسم رسميًا في عام 1935، وأصبح عطلة عامة في سنة 1994.
المؤرخ الأسترالي ديفيد هانت يقول في كتابه المهم " التاريخ غير المحكي لأستراليا" يقول: "إن الأوروبيين عندما وصلوا لأستراليا اعتبروها أرضاً خالية وقرروا ضمها للتاج البريطاني وأعلنوها مستعمرة".
ويضيف هانت قائلا: "على الرغم من وجود سكان أصليين على هذه الأرض، لكن لم يتم النظر إليهم على انهم أصحابُها وتم اعتبارُهم جزء منها وفقا لما عرف وقتها بقانون الطبيعة أو Fauna and flora ".ويرى هانت أنه: “بالنسبةِ للعديد من الأستراليين من السكان الأصليين وسكان جزر مضيق توريس، هناك القليل للاحتفال به في هذا اليوم وهو إحياء لذكرى خسارة كبيرة - ومنها فقدان الحقوق السيادية على أراضيهم، وفقدان الأسرة، وفقدان الحق في ممارسة ثقافتِهم".
Defence personnel march past with the Australian flag at an Australia Day Citizenship Ceremony and Flag Raising event in Canberra, Saturday, January 26, 2019. Source: AAP
أما من وجهة نظر السكان الأصليين، كان استعمار أستراليا بداية المذابح، وفقدان الثقافة والأرض، وبداية سنوات من التمييز والقمع.
وعن معنى اليوم وأهميته بالنسبة للسكان الأصليين، يقول دين ويدرز أسطورة الراغبي واللاعب الشهير لعدة أندية كبيرة حول هذا اليوم: “انا رجل من شعب الأنوا من شمال نيو ساوث ويلز، لاعب راغبي سابق وأعمل حاليا في الاتحاد الوطني للراغبي كمدير علاقات، وأرى أن تلك اللعبة من الرياضات التي تجمع الثقافات المختلفة والتي من شأنها أن تقلل الفوارق بين الناس وأيضا أن تدعم الفهم للثقافات الابوريجنية في هذا البلد وهو أمر هام لنا جميعا".جدير بالذكر أن ويدرز له تاريخِ نشط في دعم حركات السكان الأصليين وأيضا معروف عنه اعتزازه بأصوله وثقافته، وبسؤاله عما يمثله هذا اليوم بالنسبة لمجتمعه الكبير وكيف ينظرون لهذا الحدث، يقول ويدرز" : أعتقد أنه يوم هام، وأرى أنه لا يجب تغيير التاريخ ولكن يجب علينا تغيير اليوم، وما أقصده بذلك هو أن على الجميع سواء كانوا من أصول ابوريجنية ام لا، أن يدركوا مدى تأثير هذا اليوم علينا كسكان أصليين، وما صاحب هذا اليوم من صدمات نفسية وعاطفية، ولذلك فإن هذا اليوم بالنسبة لنا ليس يوم للاحتفال والفرح كما قد يكون بالنسبة للبعض، ولكنه أيضا يوم للحزن والحداد والصدمة".
Source: ACTION PHOTOGRAPHICS
يتابع ويدرز حديثه موضحا "وبمجرد ان نفهم ذلك، ستتغير النظرة لهذا اليوم وإدراك مدى صعوبته على السكان الأصليين، ومن هنا كان مطلبي بتغيير مفهوم اليوم وليس مجرد التاريخ مثلما يطالب الكثيرون ويتم نسيان تلك المعاناة التي مرت بها شعوبنا".
أشار ويدرز إلى أنه بغض النظر عن اليوم فلابد من الإشارة إلى معاناة السكان الأصليين والتي بدأت منذ ذلك التاريخ.وحول تلك المعاناة والتضحيات يروي ويدرز: "أرى انه من الهام جدا الإشارة إلى هذا في تاريخنا حيث ضحى الكثيرون من السكان الأصليون بكل ما يملكون منذ ذلك اليوم وحتى الآن، يوم 26 يناير هو يوم مهم في تاريخ هذا البلد بدون شك".
Former NRL star Dean Widders stars in the powerful film Araatika: Rise Up! which will broadcast on NITV throughout the week. Source: Supplied Sydney Film Festival
وأضاف قائلا "ولكن أرى أيضا أن نغير نظرتنا للأمور وأن نرى المشاكل واللامساواة التي يعاني منها السكان الأصليون حتى يومنا هذا ويجب علينا أن نركز على تلك الأمور بشكل أكبر إذا أردنا لأستراليا أن تتقدم فعلا بغض النظر عن ماهية اليوم".
ثمة انقسام كبير في المجتمع الأسترالي بسبب مفهوم هذا اليوم وذلك أدى إلى وجود هوة شاسعة بين المؤيدين والمعارضين ولابد من محاولة لسد هذه الفجوة، يرى ويدرز أن السبيل إلى ذلك يكمن في "الخطوة الأولى هي إدراك تاريخ هذا البلد وحضارة السكان الأصليين والاعتراف بها، ابداء الاحترام لحكمائها والملاك التقليدين لهذه الأرض كجزء أساسي من تاريخ أستراليا، وفي رأيي حتى الآن لم نستطع القيام بذلك بشكل صحيح".ومن وجهة نظر ويدرز أننا كمجتمع أسترالي فشلنا في ذلك ولم نستطع القيام بتلك الخطوة بالشكل اللائق في نظامنا التعليمي على سبيل المثال "لايزال حتى هذه اللحظة الكثير ما نجهله عن الثقافة الابوريجينية، في مدارسنا يتعلم أطفالنا الكثير عن الثقافات واللغات الأجنبية، وتاريخ الحضارات الأخرى ولكن القليل جدا عن تاريخ وثقافة وحضارة السكان الأصليين في أستراليا، وبرأيي أن التعليم هو الخطوة الأولى التي يمكن أن تقوم بها الحكومة لرأب الصدع وتقليل الفوارق في المجتمع الأسترالي".
Source: Supplied
أشار ويدرز إلى أهمية اللغة والثقافة والإجراءات التي يمكن للحكومة القيام بها في المدى القصير لتخفيف وطأة هذا اليوم على أبناء السكان الأصليين، ويقول عن هذا "يلي ذلك تطبيق بروتوكولات الاعتراف بالملاك التقليدين للأرض وإبداء الاحترام لهم في كافة المناسبات والفعاليات بشكل أكبر وعلى نطاق أوسع ليتم تطبيقها في مواقع العمل وهي إجراءات بسيطة يمكن للحكومة القيام بها".
وأضاف ويدرز معلقا "نقطة أخرى وهي أهمية اللغة والثقافة، حيث على سبيل المثال، أتذكر حينما كنت في المدرسة تعلمت عن العديد من الثقافات المختلفة مثل بعض الرقصات الأيرلندية على سبيل المثال ولم أتعلم أبدا شيئا عن ثقافتي الأصلية أو هن الأغاني والحكايات التقليدية أو عن لغتي وكيف يمكنني التحدث بها".
يعتبر ويدرز قدوة وشخصية مؤثرة في مجتمع السكان الأصليين في أستراليا بشكل خاص وكذلك هو شخصية شهيرة ومحبوبة في الرياضة الأسترالية بشكل عام، ولكنه يرى الانقسام الحاصل بسبب يوم أستراليا بنظرة مختلفة.
وفي هذا السياق يقول ويدرز "أرى الآن ان هناك انقسام حاد واستقطاب كبير بشأن هذا اليوم، حيث يرى البعض اليوم كيوم للاحتفالات المبالغ فيها ويوم عطلة لقضاء أوقات ممتعة بدون أدنى اعتبار لمشاعر السكان الأصليين الذين يؤلمهم ذكرى هذا اليوم ومعناه والبعض الآخر غاضب بشدة لمجرد التفكير بالاحتفاء بهذا التاريخ، ولذلك أرى أن يجب علينا جميعا سكان أصليين وأستراليين أن نصل لصيغة توافقية حول هذا اليوم".أما بالنسبة للمغني الاب اوريجيني الشهير كوتشا إدواردز فهو يرى الموسيقى كأداة مهمة لسرد قصة السكان الأصليين ومعانتهم والتي بدأت منذ هذا اليوم وعن هذا يقول "أنا رجل من شعب ماتي ماتي يوري يورا ناري ناري من السكان الأصليين".
Source: AP
يرى إدواردز أن التاريخ الحالي لا يعبر عن تاريخ هذه القارة وإنما عن تاريخ استكشاف الأوروبيين لها بدون أدنى اعتبار لأصحاب الأرض التقليدين.
وعن هذا يقول إدواردز "في عام 1788، قبل تاريخ معين لا أذكره، لأن تاريخ أستراليا يبدو لي وكأنه يتم إعادة كتابته بواسطة الغزاة، قبائل شعوب الماكسان من اندونيسيا والمستكشفين الأوروبيين من هولندا وغيرهم ممن أتى إلى هذه الأرض قبل أسطول كابتن جايمس كوك أدركوا أن هناك شعوبا تعيش على ما نسميه الآن أستراليا، لم يقم أحدٌ منهم برفع علم بلاده على تلك الأراضي واحتلالها، ولذلك هناك هذا الانقسام والذي نعاني منه الآن".
تعلم كوتشا منذ الصغر حب الموسيقى وعندما أصبح شابا أدرك أن له رسالة مهمة من خلال صوته وأن يكون صوتا لأبناء السكان الأصليين.
وعن علاقته بالموسيقى ورؤيته لدوره في هذا الشأن يقول إدواردز "الموسيقى بالنسبة لي هي وسيلة تواصل روحية مع أسلافنا من السكان الأصليين، وانا دوري توصيل تلك الرسائل من خلال الغناء والموسيقى، وان أحمي تراثنا وأستمع لحكمة الأولين، للأسف انا لا أستطيع التحدث بلغتي الأصلية وإنما أكتب كلماتي وأغني باللغة الإنجليزية وهي لغة أجنبية بالنسبة لنا وهذه هي الحقيقة المؤسفة".وأضاف كوتشا أنه يدرك أن الزمن قد تغير، ولكن الأرض باقية واتصال شعوب السكان الأصليين بهذه الأرض ممتد عبر الأجيال وفي وعيهم وخيالهم وحتى وإن لم يدركوا ذلك.
Source: AAP
يسترجع إدواردز ذكرياته عندما كان شابا ويقول "عندما بدأ الاحتفال بيوم 26 يناير، وعندما بدأت أدرك معنى اليوم حينما كان عمري 18 عاما، تشعر بالمرارة التي يسببها ذلك اليوم لك، وتبدأ في فهم أشياء أخرى مثل العنصرية والتمييز لأنك مختلف، لأنك لست مثلهم، وحينها تريد حماية نفسك وأن تنعزل حتى لا يراك أحد، لكني وصلت لقناعة أنني سوف أقاتل حتى النهاية ولن أستسلم أو أركع".
أما عن رؤيته لكيفية تقريب وجهات النظر ومحاولة لم الشمل والمصالحة الوطنية والتي بالتأكيد تحتاجها أستراليا أكثرُ من أي وقت مضى، فقال "نحن لا نتعامل فقط مع الحكومة الفدرالية، لكن في الواقع كان للولايات السلطة الأكبر على أبناء السكان الأصليين، قبل استفتاء عام 1967، لم يكن لدينا أية حقوق على الإطلاق، لكننا لم نقم بموجب هذا الاستفتاء بالتخلي عن أرضنا أو سيادتنا لهذا البلد".
ويرى إدواردز أن الحكومات الأسترالية فرضت عليهم الانضمام لهذا البلد ولم تأخذ رأيهم إذا كانوا يريدون حقا أن يصبحوا جزء من أستراليا ويقول "لماذا لم تقم الحكومة بسؤالنا هل تريدوا حقا أن تكونوا جزءا من أستراليا؟".ويتابع إدواردز موضحا "بدلا من توجيه هذا السؤال لغير السكان الأصليين في البرلمان، وربما بالنسبة للبعض قد يظنون أنهم قد تم بالفعل سؤالنا حول ذلك ولكن ذلك لم يحدث أبدا، لقد طلبوا منا أن نكون جزءا من أستراليا البيضاء ولذلك فإن موقفي دائما من هذه الحكومات ثابت ولن يتغير ولم أعترف بها يوما لأنني ما زلت أمارس سيادتي على هذه الأرض".
Source: AAP
وفي ختام حديثه أشار كوتشا إلى أهمية فتح الحوار مع أبناء السكان الأصليين والذي في رأيه لم يحدث منذ ذلك اليوم "نحن ما زلنا في انتظار طلب الإذن من أولئك الأشخاص الذين أتوا من عام 1788، نحن في انتظار طرقة الباب واستئذان السكان الأصليين في المجيء والعيش على أرض هذا البلد، منذ أكثر من 230 عاما ونحن ننتظر وأعتقد أن هذا هو كل ما نريده حقا".
يطولُ الكلام عن هذا اليوم ولن ينتهي الجدل قريبا إلا بمحاولة صادقة وحقيقية لفهم الآخر وإدراك أننا جميعا نتشارك في الوطن والمصير، فقط حينها ستخف حدة المناقشات وترتفع روح التعاون والتسامح ويُصبحُ كل يومٍ هو يوم أستراليا.