في السادس والعشرين من يناير كانون الثاني من كل عام، يحصل الأستراليون على عطلة رسمية للاحتفال بيوم أستراليا الوطني.
يصادف اليوم وصول الكابتن آرثر فيليب إلى منطقة سيدني كوف عام 1788، ورفع العلم البريطاني على السواحل الأسترالية لإعلانها منطقة خاضعة للملك جورج الثالث.
منذ ذلك الحين، أصبح هذا اليوم يحمل أهمية خاصة، لكنه لم يتبلور في الشكل الذي نعرفه الآن إلا عام 1994، عندما حصلت الأمة كلها على إجازة رسمية بهذه المناسبة. تنظم السلطات فاعليات مختلفة للاحتفال بهذا اليوم، يشرف عليها مجلس يوم أستراليا الوطني الذي تم تأسيسه عام 1979 لهذا الغرض.يرتبط السادس والعشرين من يناير كانون الثاني بالكثير من المعاني الإيجابية لقطاعات واسعة من الأستراليين، فهو يوم تكريم البعض بجوائز "أسترالي العام" أحد أرفع الجوائز الوطنية في البلاد. وللبعض الآخر هو يوم الحصول على الجنسية الأسترالية، أو على أقل تقدير هو يوم إجازة تجتمع فيه العائلة والأصدقاء وتُقام فيه حفلات الشواء.
SYDNEY, AUSTRALIA - JANUARY 26: Australia Day revelers pose for photos at Circular Quay on January 26, 2018 in Sydney, Source: Getty Images AsiaPac Cole Bennetts/Getty Images
ولكن في المقابل، بدأ عدد متزايد من الأستراليين في التركيز على الجوانب السلبية لذكرى هذا اليوم.
"يوم الغزو"
عندما كان السير هنري باركس رئيس ولاية نيو ساوث ويلز يخطط للاحتفال بمرور مائة عام على وصول الكابتن فيليب إلى شواطئ سيدني عام 1888، سُئل إن كانت هذه الخطط ستشمل السكان الأصليين.
رد باركس مستنكرا "حتى نذكرهم أننا سرقناهم؟"
هذا الرد الصادم يلخص سبب الخلاف على الاحتفال بيوم أستراليا الوطني في السادس والعشرين من يناير كانون الثاني كل عام.السكان الأصليون وسكان جزر مضيق توريس وعدد متزايد من الأستراليين يرون هذا اليوم باعتباره يوم "غزو" القوات البريطانية لقارة أستراليا وانتزاعها من شعوب السكان الأصليين الذين عاشوا على هذه الأرض منذ أكثر من 40 ألف عام.
Statue of Henry Parkes in Centennial Park, Sydney. (Centennial Parklands) Source: Centennial Parklands
هؤلاء يرغبون في تغيير موعد الاحتفال بيوم أستراليا الوطني إلى يوم آخر يعبر عن مناسبة وطنية تجمع كل الأستراليين، وليس مناسبة للتذكير بتنكيل قطاع من الأستراليين بمكون آخر من المجتمع على مدار سنوات.
في المقابل يطالب هؤلاء بتخصيص اليوم للتعريف بمعاناة السكان الأصليين والتذكير بحقهم في السيادة على تلك الأرض.
أرض بلا شعب
اعتبر البريطانيون أستراليا أرضا خاوية أو غير مملوكة لأحد، أو كما يصفها المصطلح القانوني اللاتيني Terra Nullius. هذا يعني أن سلطات "الغزو" البريطانية بدأت في إخضاع القارة إلى سلطتها مباشرة دون اعتبار السكان الأصليين.
يستغل السكان الأصليون إحياء "يوم الغزو" للتذكير أن حضارتهم كان لها سيادة على تلك الأرض قبل وصول الأوروبيين. وينظم المدافعون عن هذه القضية مسيرات في مختلف أنحاء أستراليا للدعوة إلى تحقيق العدالة للسكان الأصليين و الاعتراف بسيادتهم على هذه الأرض.
لذا فإن أشهر الهتافات خلال تلك المسيرات هو "sovereignty never ceded" والتي يمكن ترجمتها إلى "السيادة لم يتم التنازل عنها قط"، في إشارة إلى أن السكان الأصليين لم يوقعوا معاهدة قط مع الأوروبيين.
الاعتراف بسيادة السكان الأصليين يعني توقيع معاهدة معهم لتوفيق أوضاع الدولة الأسترالية الحديثة خاصة فيما يتعلق باستغلال الأراضي، وإنشاء مجلس خاص لتمثيل السكان الأصليين، ومنحهم حصة في الحكومة الفيدرالية.
عنف استمر لعقود
يطالب أيضا السكان الأصليون بتخصيص هذا اليوم للتذكير بمعاناتهم والعنف الذي تم ممارسته ضدهم منذ وصول الأوروبيين.
في مقالة رأي نشرتها صحيفة الغارديان، كتبت الممثلة والكاتبة ناكيا لوي التي تنحدر من شعب الغاميلاوري، عن أسباب رفضها الاحتفال بيوم أستراليا الوطني واعتباره يوما للحداد: "نحن نعلن الحداد على إعلان أستراليا أرضا خاوية وكذلك على من قُتلوا خلال المجازر، ومن تم اقتلاعهم من أرضهم ومنازلهم، ومن تم تجريدهم من إنسانيتهم، والذين تعرضوا للضرب والتقييد وأُلقوا في معسكرات الاعتقال أو أُجبروا على العيش في محميات."
بدأت المواجهات العنيفة بين السكان الأصليين والمستوطنين البيض بعد وصول السفن الأوروبية مباشرة. واندلعت سلسلة مواجهات دامية منذ عام 1788 وحتى عام 1982 فيما عرف باسم "حرب الحدود".وفي كل ولاية على حدة، تم إخضاع السكان الأصليين إلى عدد من السياسات التي تهدف إلى دمجهم قسرا في المجتمع الأسترالي الحديث والقضاء على ثقافتهم وهويتهم الأبورجينية.
The Slaughterhouse Creek Massacre of 1838, New South Wales by Godfrey Charles Mundy Source: Australian War memorial
تلك السياسات أدت إلى قمع السكان الأصليين وتجريدهم من أراضيهم وطردهم من منازلهم وإجبارهم على العيش في ظروف تحد من حريتهم وقدرتهم على الاختيار، كما تمنعهم من ممارسة ثقافتهم أو الاحتفاء بها. ووصلت تلك السياسات إلى حد سرقة أطفالهم قسرا وإيداعهم مؤسسات تعليمية غربية بهدف قطع علاقتهم بثقافة أجدادهم فيما عرف باسم "الجيل المسلوب".
هذا العنف هو الذي شكل تاريخ أستراليا الحديث وصولا إلى الاعتراف بالسكان الأصليين كجزء من السكان في أستراليا بعد استفتاء عام 1967 الشهير، ومن ثم وقف تلك السياسات الممنهجة وحتى اعتذار كيفن راد عام 2008 عن الجيل المسلوب.
فهل يمكن أن يكون هذا اليوم فرصة لدراسة التاريخ "الحقيقي" لأستراليا دون التغافل عن وجهة نظر السكان الأصليين ومعاناتهم؟
يوم الحداد
لم تتبلور فكرة وجود أنشطة موازية للأنشطة الرسمية يوم السادس والعشرين من يناير كانون الثاني حتى عام 1983 عندما كانت البلاد تحتفل بمرور 150 عاما على وصول أول أسطول للمحكومين البريطانيين.
ففي هذا العام، عُقد يوم للحداد في مدينة سيدني، حيث قام المشاركون في سيدني بمسيرة صامتة من التاون هول إلى الأستراليان هول في شارع إليزابيث، وهناك عقدوا اجتماعا حضره 100 شخص.خلال هذا الاجتماع قام رئيس "جمعية تقدم السكان الأصليين" جاك باتن بقراءة هذا القرار: "نحن، ممثلو السكان الأصليين في أستراليا، اجتمعنا في مؤتمر في الأستراليان هول في سيدني، يوم السادس والعشرين من يناير كانون الثاني عام 1938، الموافق ذكرى مرور 150 عاما على استيلاء الرجل الأبيض على بلادنا، لنعبر عن احتجاجنا على المعاملة القاسية لشعبنا على يد الرجل الأبيض خلال المائة وخمسين عاما الماضية، وندعو الأمة الأسترالية اليوم إلى إقرار قوانين جديدة لتعليم ورعاية السكان الأصليين، ونطالب بسياسة جديدة لرفع شعبنا إلى درجة المواطنة الكاملة والمساواة في المجتمع".
'Day of Mourning'. Source: Australian Institute of Aboriginal and Torres Strait Islander Studies (AIATSIS)
وبعد هذا اليوم المفصلي في تاريخ الحركة الداعية لتغيير تاريخ يوم أستراليا الوطني، ذهب عدد من المشاركين إلى بوتاني باي ووضعوا أكاليل تذكارية في البحر في لافتة رمزية إلى مرور 150 عاما على القمع والفقدان.
جدير بالذكر أن بوتاني باي هي أول مكان ترسو فيه سفينة الكابتن جايمس كوك عام 1770 ليصبح أول أوروبي يطأ الشواطئ الشرقية لأستراليا.
يوم النجاة
لا تعتمد كل فاعليات "يوم الغزو" على إحياء الذكريات السلبية، ولكن يعتبرها الكثيرون فرصة أيضا لتذكر نجاة شعوب السكان الأصليين وثقافتهم.
فرغم الغزو والاستعمار والتمييز وعدم المساواة الممنهجة، والممارسات التي تهدف إلى اقتلاع ثقافتهم من جذورها، إلا أن السكان الأصليين استمروا في الاعتناء بأرضهم وممارسة تقاليدهم ونجحوا في إيصال صوتهم وانتزاع بعض حقوقهم. وبالنسبة للكثيرين، هذا يوم للنجاة أيضا.
في الذكرى المئوية الثانية ليوم أستراليا الوطني عام 1988، شارك الأستراليون من السكان الأصليين ومن غير السكان الأصليين في مسيرة حاشدة في سيدني قال عنها الناشط الأبورجيني غاري فولي إنها تظهر تكاتف الأستراليين السود والبيض فيما يمثل أستراليا كما يمكن أن تكون.وعلى عكس فاعليات يوم أستراليا الوطني الذي يتم تنظيمها دون استشارة السكان الأصليين أو باستشارتهم بشكل رمزي، فإن أول مهرجان نُظم لإحياء يوم النجاة بدأته الشعوب الأصلية في سيدني وركز على الاحتفال بثقافتهم ومنجزهم الحضاري.
Aboriginal protests on Sydney Harbour on Australia Day celebrations, 1988 Source: Wordpress
اليوم تُقام فاعليات يوم النجاة المختلفة في جميع أنحاء أستراليا وسط أصداء موسيقى السكان الأصليين ورقصاتهم وطقوسهم المميزة.
وكما قال الناشط في مجال المصالحة مع السكان الأصليين غوستاف نوسال والحائز على جائزة أسترالي العام لسنة 2000: "أغلب السكان الأصليين يرغبون في العيش في أستراليا واحدة، والمشاركة في تقرير مصيرها والمساهمة في تقدمها، ولكن في نفس الوقت يرغبون في الاعتراف بهم والحصول على الاحترام الملائم لوضعهم وحضارتهم الممتدة على مدار آلاف السنين."