في صباح هادئ من صيف عام 1859، استيقظت بلدة وينتشلسي الفيكتورية على مشهد بدا في ظاهره عاديًا، لكنّه كان شرارة لتحوّل لا مثيل له في التاريخ البيئي لأستراليا.
بين خضرة الحقول وهدير نهر باروين، أطلق المستوطن الإنجليزي توماس أوستن ثلاثة عشر أرنبًا في البرية، غير مدرك أن هذه اللحظة سيكون لها تأثير كبير في كل زاوية من زوايا القارة.
إنها حكاية بدأت بحنين للوطن وانتهت بكارثة بيئية، وها نحن اليوم نروي فصولها من قلب وينتشلسي، البلدة التي تختزن بين أزقتها سحر التاريخ ودروس الطبيعة.
أهلا بكم في حلقة جديدة من حلقات مشوار من أستراليا. اليوم، نأخذكم في رحلة إلى بلدة وينتشلسي في ولاية فيكتوريا، لنروي قصة بدأت بداية عادية وانتهت بتغيير وجه القارة بأكملها.
البداية: عيد ميلاد غير متوقع
في يوم عيد الميلاد من عام 1859، قام توماس أوستن بإطلاق الأرانب البرية الأوروبية في مزرعته بهدف إدخال رياضة الصيد التي كان يفتقدها من موطنه الأصلي.
لكن ما لم يتوقعه أوستن هو أن هذه الأرانب ستجد في البيئة الأسترالية ملاذًا مثاليًا: مناخ معتدل، غياب الحيوانات المفترسة، وتوافر للغذاء.
وبهذا، بدأت الأرانب في التكاثر بسرعة مذهلة.

Rabbits around a waterhole during myxomatosis trials, Wardang Island, South Australia, 1938 Credit: National Archives of Australia
كان معدل انتشار الأرانب في أستراليا الأسرع بين الثدييات المستوطنة في العالم.
من مزرعة إلى قارة
بحلول عام 1866، وصل عدد الأرانب في مزرعة أوستن فقط إلى 14 ألفا. وبحلول عام 1880، عبرت الأرانب نهر موراي إلى نيو ساوث ويلز، ووصلت إلى كوينزلاند في عام 1886 ثم إلى أستراليا الغربية في عام 1894.
أدى هذا الانتشار الهائل إلى تدمير واسع للغطاء النباتي، مما تسبب في تآكل التربة وفقدان التنوع البيولوجي.
كما أثرت الأرانب سلبًا على الزراعة، حيث قضمت المحاصيل وأضرت بالبنية التحتية للمزارع. حاولت الحكومة الأسترالية السيطرة على هذه الآفة باستخدام طرق متعددة.
LISTEN TO

قصر مونتي كريستو في نيو ساوث ويلز: ماض غامض وظواهر غريبة!
SBS Arabic
05:00
طوال القرنين التاسع عشر والعشرين، جُرِّبت أساليب مختلفة لمكافحة الأرانب، بما في ذلك نصب الفخاخ وتدمير جحور الأرانب. إلا أن أكثر أساليب المكافحة وضوحًا كانت الأسوار. أصبحت الأسوار جزءًا لا يتجزأ مما اعتبره المستوطنون في أواخر القرن التاسع عشر حربًا على الأرانب.
ولكن كل تلك الطرق أثبتت فشلها ووصلت أعداد الأرانب إلى 600 مليون مع نهاية أربعينيات القرن الماضي.
مع أن الأرانب كانت آفة، إلا أنها كانت أيضًا مصدرًا مجانيًا للحوم في السنوات العجاف. خلال فترة الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، لجأ الكثيرون إلى صيد الأرانب أو اصطيادها للحصول على الطعام، بل وأصبحوا بائعي أرانب متجولين.
انخفضت أعداد الأرانب لبعض الوقت بسبب اصطيادها وبسبب إصابتها بعدد من الفيروسات ولكنها طورت مقاومة ضدها وأعدادها الآن في ارتفاع مرة أخرى في أستراليا.
وتشير التقديرات إلى أن الأرانب تكلف الاقتصاد الأسترالي أكثر من 200 مليون دولار سنويا.
طبيعة وتاريخ وسحر محلي
لكن دعونا نُزيح الستار عن وينتشلسي نفسها.
تقع هذه البلدة الهادئة على ضفاف نهر باروون، وتبعد حوالي 115 كيلومترًا جنوب غرب ملبورن، وتُعد واحدة من أقدم البلدات في المنطقة. يعود تاريخها إلى أربعينيات القرن التاسع عشر وقد كانت مركزًا زراعيًا مهمًا لسنوات طويلة.
إلى جانب قصر "باروين بارك" التاريخي، الذي يُعتبر جوهرة معمارية من الطراز الفيكتوري، يضم المجتمع المحلي كنيسة القديس توماس التي تعود لعام 1862 بالإضافة إلى جسر باروبن الحديدي المميز الذي يعكس عبقرية الهندسة في القرن التاسع عشر.

A rabbit-proof fence divides pastures in Victoria, 1963 Credit: National Archives of Australia
وفي مواسم الشتاء والربيع، تتحول المزارع المحيطة إلى لوحات من الألوان الزاهية حيث تتفتح أزهار الخزامى وتنتشر حقول الأغنام والأبقار في مشهد بديع.
أستراليا اليوم هي موطن لـ150 مليون أرنب على أقل تقدير ولا يزال لهذا تأثير بيئي كبير على القارة.
قصة الأرانب في أستراليا تذكرنا بأهمية التفكير في العواقب البيئية لأفعالنا حتى تلك التي تبدو بسيطة.
ومن خلال زيارة وينتشلسي، يمكننا ليس فقط استكشاف هذا التاريخ البيئي المثير، بل أيضًا الاستمتاع بجمال الطبيعة وكرم أهل البلدة، وماضيها العريق الذي يتناغم بسلاسة مع حاضرها الهادئ.