النوروز: أصل ضارب في عمق التاريخ
يعود أصل عيد النوروز إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة، حيث ارتبط بالأديان الزرادشتية في بلاد فارس القديمة. كان هذا العيد في البداية يمثل انتصار النور على الظلام، وتجدد الحياة من جديد. ورغم التحولات التي شهدتها المنطقة على مر العصور، لم يتوقف النوروز عن كونه رمزاً حياً للسلام، والحرية، والأمل.
وتعكس الاحتفالات بهذا اليوم في إيران والدول المحيطة عمقًا ثقافيًا حيث تُعتبر شعوب مثل الفرس، الأكراد، الطاجيك، والأذريين جزءًا أساسيًا من هذا التقليد الذي انتقل عبر الزمان. ومع مرور الوقت، أصبح عيد النوروز ليس فقط عيداً ثقافياً، بل نقطة تلاقي روحية وسياسية لشعوب قاست من الظلم وأبت الاستسلام.
طقوس النوروز: من الطقوس القديمة إلى رمزية التطهر والتجدد
تتعدد طقوس النوروز بين الثقافات المختلفة، ولكنها تتفق في جوهرها على فكرة التجدد. في إيران، على سبيل المثال، يتزين "سفرة هافت سين" بعدد من الرموز التي تبدأ بحرف "س" الفارسي. وتُمثل هذه الرموز، مثل الثوم والخل، والسبانخ والتفاح، جوانب مختلفة من الحياة؛ فالثوم يرمز إلى القوة، والتفاح إلى الصحة.
أما في كردستان، فتكتسب طقوس النوروز بُعداً سياسياً عميقاً، حيث تعتبر النيران المشتعلة على قمم الجبال رسالة رمزية عن الحرية والمقاومة ضد الظلم. يقول الدكتور شورش علي أحمد، الأكاديمي المتخصص في الثقافة الكردية: "النوروز بالنسبة لنا ليس مجرد بداية فصل جديد، بل هو تجسيد للمقاومة ضد الاستبداد، رمز للأمل في غدٍ أفضل".

epa11972555 An Iranian man takes part in a traditional fire feast called 'Charshanbeh Suri' in Tehran, Iran, 18 March 2025. The festival is held annually on the last Wednesday eve before the Persian New Year (Nowruz), which starts on 20 March this year, also marking the beginning of spring. Nowruz, which has been celebrated for at least three thousand years, is the most revered celebration in the Greater Persian world, which includes the countries of Iran, Afghanistan, Azerbaijan, Turkey, and portions of western China and northern Iraq. EPA/ABEDIN TAHERKENAREH Source: EPA / ABEDIN TAHERKENAREH/EPA
النوروز في كردستان: يوم مقاومة وتاريخ من النضال
في كردستان، يتخذ النوروز طابعاً خاصاً يتجاوز كونه مجرد عيد للاحتفال بقدوم الربيع. يقول الدكتور شورش علي أحمد: "يعد النوروز بالنسبة للأكراد مناسبة تاريخية تحمل معاني النضال ضد الظلم، حيث يرتبط بذكرى ثورة كاوة الحداد ضد الملك الضحاك في الأساطير الكردية. ويعتبر اليوم بمثابة تذكير مستمر بالكفاح من أجل حقوقنا وحريتنا".
ويضيف: "حتى في ظل الأنظمة الاستبدادية، كان الأكراد يحتفلون بالنوروز سواء علناً أو سراً، وكان إشعال النيران في الجبال يعبر عن تمسكنا بالحياة والحرية، وكانت هذه الممارسات تُعتبر شكلًا من أشكال التحدي للنظم القمعية".

النوروز في أستراليا: إعادة الاتصال بالهوية الثقافية
تتجلى أهمية النوروز في دول الشتات الكردي، حيث يظل هذا العيد مرجعية ثقافية، وهو فرصة للأجيال الجديدة للاحتفاظ بهويتهم الثقافية. في أستراليا، على سبيل المثال، تجمع الجاليات الكردية لإحياء هذا العيد بإقامة مهرجانات ضخمة، يشعل فيها الأكراد النيران، ويرتدون الأزياء التقليدية، ويُعدون الأطعمة الخاصة التي تميز هذا اليوم.
في هذا السياق، تقول الصحفية الكردية آفين يوسف من شرق سوريا: "النوروز هو أكثر من مجرد احتفال، إنه فرصة لإعادة الاتصال بجذورنا الثقافية، ولتعليم أبنائنا قيمنا وتقاليدنا. إن الاحتفال بهذا العيد في المهجر يعزز شعورنا بالانتماء ويقوي الروابط بين أفراد الجالية".
النوروز في سوريا: بين القيود والتحرر
في شمال وشرق سوريا، يعتبر النوروز عيداً ذا خصوصية كبيرة، حيث يعكس تحديات الواقع السياسي. يقول أحلام يوسف من سوريا: "لقد مررنا بالكثير من المحن، خاصة في ظل النظام السوري، الذي حاول دائمًا قمع احتفالاتنا بالنوروز. ومع ذلك، استمررنا في الاحتفال رغم القيود، لأن النوروز يمثل بالنسبة لنا رمزًا للنضال ضد الظلم، ويجسد رغبتنا في الحفاظ على هويتنا".
وفي سياق متصل، تشير الإعلامية الكردية جيان ميرزا إلى أن الاحتفالات في السنوات الأخيرة أصبحت أكثر حرية، حيث لم يعد هناك قيود مشددة كما كان الحال في الماضي. "هذه السنة، نحتفل بالنوروز في أجواء أكثر تحررًا وأمانًا، وهو ما يعكس تطورًا كبيرًا في حرية التعبير"، تقول جيان.
أما ريناس حاج حسين، الذي يتحدث عن الاحتفالات بالنوروز في منطقة القامشلي، فيوضح أن النوروز في هذه المنطقة يعتبر جزءًا لا يتجزأ من تاريخ وذاكرة الأكراد، ويظل رمزًا للمقاومة الثقافية. في حديثه عن المهرجانات التي تُنظم في هذه المناطق، يعبر ريناس عن كيف أن النوروز يجسد وحدة الأكراد واحتفاظهم بتراثهم رغم كل التحديات السياسية والاجتماعية.
النوروز في المهجر: الحفاظ على الهوية وتعزيز الوجود الثقافي
من أوروبا إلى أمريكا الشمالية، يجسد النوروز في المهجر حالة من التمكين الثقافي. في أستراليا، على سبيل المثال، لا تقتصر الاحتفالات على الأكراد فحسب، بل تشارك فيها مختلف الشعوب التي تحتفل بالعيد. وعادةً ما يُشعل الأكراد النيران في ساحة الاحتفالات، ويرتدون ملابسهم التقليدية، مما يجعل النوروز حدثًا فنيًا وثقافيًا يشارك فيه الجميع.
أفين يوسف، الصحفية الكردية من شرق سوريا، تذكر أهمية النوروز في تعزيز الهوية الثقافية بين الأجيال الجديدة في الشتات: "يتيح لنا هذا العيد الحفاظ على لغتنا وتقاليدنا، وهو فرصة لتمريرها إلى الجيل القادم الذي لم يولد في كردستان".

Syrian Kurd Nazdan who fled her home in Qamishli, Syria, wears traditional clothes as she dances and waves a Kurdish flag, during a celebration of Nowruz day, in Beirut, Lebanon, Monday, March 21, 2016. Nowruz, the Farsi-language word for 'new year', is an ancient Persian festival, celebrated on the first day of spring in central Asian Republics, Afghanistan, Iran, Iraq and Turkey. (AP Photo/Bilal Hussein) Credit: AP
النوروز: رسالة للعالم
في النهاية، يظل النوروز عيدًا يتجاوز حدود المكان والزمان. إنه ليس مجرد بداية لربيع جديد، بل هو رسالة تدعو الجميع إلى التمسك بالحياة، والاحتفال بالسلام والتضامن بين الشعوب. على الرغم من القيود السياسية التي لا تزال تُفرض في بعض الأماكن على الاحتفال بالنوروز، يبقى هذا العيد شعلة أمل تعبر عن تجدد الحياة، وتحمل في طياتها دعوة لكل من يسعى إلى السلام والحرية.