يسير ببطءٍ في ملامح الزمان والمكان والصوت، ليستحضر على مذبح الذاكرة قربان ذاك الذي رحل ولم يرحل.
17 آذار 1925
لم تكن تعي أم عاصي أنّ السابع عشر من آذار/مارس سيكون ولادة توأمٍ لا بالجسد، بل بالروح، فمع ولادة منصور سيولد بكرها عاصي بالملء ليصير الاثنان روحًا واحدة في غيريّة، ستبقى سرًّا، تدهش العالم وتشفي "الأنا" من سجن الاسم لترحل بها إلى رياح اللا اسم.
في كنف بيتٍ من دفء، ترعرع منصور الرحباني في ظلال أم عاصي وأبو عاصي، ذاك الأب حنّا الذي سيناديه الرحيل سريعًا ليترك منصور ومعه عاصي في بحث دائم عن وطن بين يُتمين، يتم الأب ويتم الفقر.
طفولة منصور الرحباني الذي سكنها وسكنته، شكلّت إنسانه إلّا أنّها لم تأسره، بل كان يلجأ اليها كملاذ كلّما دعت الحاجة. طفولةٌ فقيرةٌ غنيّة بقي يعبث بها في مشيب طفله.
يعود الحفيد عمر الرحباني إلى طفولته الدافئة في حضرة منصور الذي لم يرَ في عينيه إلّا التشجيع، داخل جدران منزل جده وحنان الجدّة تريز فيقول:
كان الجدّ منصور يبدو وكأنه يصغر بوجودنا لنكبر بوجوده وكأنّ في داخله طفلٌ لم يكبر ليرى في أحفاده فرصةً ليعانق طفولته
عن طفولةٍ شكّلت مخزون إنسان وفنّان منصور الرحباني يقول عمر الرحباني:
كانت كلمة "الكونيّة" حاضرة جدًّا في أحاديثي ومنصور، وهو من علّمني أن أنظر إلى الأمام برؤية النسر الثاقبة
" كان منصور يشاركني بلحظات طفولته ويسرد لي لحظات البرد، وتفاصيل عمله كشرطي في بلدية أنطلياس وبداياته مع عاصي. رغم أنه كان تقدّميًّا، لا يحنّ إلى الماضي كثيرًا رغم أنّ طفولته محفورةٌ فيه وفي كل كلمةٍ كتبها ".
الزمان والمكان ونبويّة الكلمة
تتخطّى الكلمة الرحبانيّة الزمان والمكان وإن عانقته في أصغر تفاصيله، فكانت نبويّة وهي التي تجسّدت فيه ولو أنّها بقيت حرّة من سلطانه.
Late Mansour Rahbani with his wife Therese surrounded by grandchildren Malek, Karim, Mansour, Omar & Tarek.
وفي هذا النداء إلى المطلق، يبقى المكان توق التراب للتراب، في بيت ينتظر معانقة "بشير المعّاز" و "راجح الكذبة" في أنطلياس. عن ذاك البيت يقول عمر:
"عندما أدخل اليوم إلى بيت جدّي منصور في أنطلياس ينصبّ عليّ شلّال قويّ من الذكريات".
الفقر يُتمٌ آخر
لم يختبر الحفيد عمر ذاك اليتم الذي أغنى منصور وجال به على حواف العُمر في قلق دائم للهروب من العوز، فأصرّ والأبناء أن يجنّبوا الأحفاد تلك البدايات الوعرة ليشقّ لهم طريقًا مختصرًا للمضي قدمًا نحو الحياة، إلّا أنّ عُمر يقول:
" لسوء الحظ وحسنه أنّني لم أختبر الفقر، كان يستهويني أن أبدأ من الصفر كمنصور لأرسم طريقي ولو على حساب الوقت إلّا أنّ محبّة والدي وجدّي اختصرت الطريق".
يوافق منصور على أنّ الحرمان يُتمٌ آخر إلّا أنّه رحم الإبداع الذي يخلق نوعًا من الطاقة التي تتوق لأن تتفجّر لتجد طريقها نحو الفن والخلق والنغم.
يضحك عمر عند سماع كلمة القبيلة الرحبانيّة على لسان منصور، فيقول:
القبيلة الرحبانيّة بحضور منصور كانت أجمل وفي غيابه باتت أصعب
منصور الذي اضطر إلى ترك المدرسة بسبب يتم الأب والفقر، لم يكن يمانع أن يتسلّل الحفيد عمر من صفوف اللغة العربيّة والحساب ليجالس منصور المعلّم الذي لم يترك المعرفة يومًا والذي قال عن شقيقه الأصغر الياس "ظل يتكاسل يتكاسل حتى أصبح عبقريًّا ".
Mansour Rahbani with his son Marwan & grandchildren Omar, Mansour & Tarek
خشبة الخلاص والرحيل
كانت علاقة منصور بخشبة المسرح مقدّسة، إذ كان بمثابة خشبة خلاص له ومتنفّس الكلمة التي أرادها الأخوين من الناس وإليهم. يعتبر منصور أنّ المسرح هو انعكاس للمجتمع وعن هذا الارتباط يقول عمر:
"كانت علاقته بالمسرح مقدّسة، كان يرى فيها مرتع صباه فكانت ملعبه ومكتبه ومحترفه. يتابع أصغر التفاصيل ويتنبّه للحركة النفسيّة لكلّ شخص من فريق العمل من الممثّلين الأبطال إلى من يسدل الستارة".
هو الذي اختار أن يغمض عينيه في نعش من خشب المسرح كي يعود إلى رحم أوّل منه ولد، لعلّه برحيله يأبى أن يرحل.
في هذا السياق يقول عمر:
أصرّ منصور أن يغادر في نعش من خشب المسرح، لعلها كانت فكرة تطمئنه
عمر الباحث عن الحقيقة وفي ذاك البحث يتخبّط في أسئلة وجوديّة ، دنا منه الجدّ منصور ذات يوم وقال له:
" هل تريد أن تستريح يا عمر؟ عليك إذًا أن تستند إلى حائط الإيمان! وهذه الجملة ترافقني حتى اللحظة".
رغم أنّ الإيمان في نظرته الفلسفيّة الواسعة كان أشمل من الدّين بالنسبة لمنصور، لا يلغيه إنّما يتخطّاه، وفي هذا السياق يقول عمر:
" في نظرة يقظة ربما قصد جدّي أنّه ينبغي عليّ حتى أن أخلق حائط إيماني الشخصي، الإيمان الخاص بي".
المرأة
كانت المرأة رحم عبقريّة منصور وحبر قصيدته وهي الملهمة بدءًا من أمّ عاصي إلى شريكة العمر تريز. منصور الذي كان يميّز بين الحبّ والمحبّة، كان تاريخه حافلًا بالعبث والبحث النقّي عن المرأة التي عرفها في كلّ تفاصيلها. يعود عمر الى غرفة منصور وذاك الباب المقفل، يضحك فيقول:
" كنتُ كاتم أسراره وكان يشاركني بمغامراته! يعرف المرأة عن كثب في كلّ تفاصيلها"، "لم يكن أفلاطونيًا البتة في علاقته بالمرأة ولكنّه كان أخلاقيًا بامتياز وهذه عبقريّته ".
نقل الجدّ منصور عشق المرأة للحفيد عمر الذي تساءل عن سبب اتّخاذ الله هذا المنحى الذكوري، قائلًا "أما كان يجدر به أن يكون امرأة؟".
وعن تريز التي كانت تحتوي عبقريّة منصور الذي لم يكن أفلاطونيًّا بحبّه الرحباني يقول عمر:
تريز كانت شريكة العمر التي احتوت ذلك الجبل، رحلت وفي رحيلها اهتزّ الجبل ولم يشأ أن يبقى منصور بعدها طويلًا فغادر ليلحق بها
جعلتُ منك شاعرًا
عمر الذي كان يحمل مشعل الفلسفة منذ شبابه، سمح بأن يبذر منصور الشعر في أرضه ، وذات يومٍ قال له "عملتك شاعر يا جدّو".
Omar Rahbany with the legendary grandfather Manour.
" كان يكتب لي منصور القصائد على ورق صغير لأحفظ الأبيات الشعرية، وحتى على سرير مرضه في المستشفى قبل الرحيل، طلب مني أن أردّد الأبيات الشعريّة التي أوصاني بأن أحفظها".
Three generations of Rahbani composers: Omar Rahbany with his father Ghadi & grandfather Mansour.
ينظر عمر إلى عبقريّ كان يناديه "جدي"، ذاك المبدع الذي كان يغلّف نقده السياسي بروح الفكاهة، ليقول:
ذاك الذي كنت أناديه جدّي، كم كان تأثيره كبيرًا على وطن وعلى حقبةٍ زمنيّة!
"أحاول أحيانًا أن أغضّ النّظر عن هذه الحقيقة الكبيرة كي أتمكّن من أن أعمل".
وعن الأخوين وزهد الغيريّة لا الفردية، كي تتألّق ال "نحن"، في ثنائيّة عاصي ومنصور السرّية، يقول عمر:
"لم أسمعه يومًا يقول "أنا لحّنت"! انّه سرٌّ عميق وحتى بعد رحيل عاصي كان يقول نحنُ".
بين الموت والحياة والخلق وشعلة الإبداع، هل كتب منصور، ومعه عاصي، بمئوية هويّة لبنان الحلم الذي قد لا يكون مكان له تحت سماء ذلك الوطن الجريح؟ ماذا قال حارس الإرث الرحباني الشاعر اللبناني هنري زغيب لعمر الرحباني؟
الإجابة في هذه الرحلة الصوتيّة مع عمر الرحباني، في الملّف الصوتيّ أعلاه.
"Good Morning Australia" من الإثنين إلى الجمعة من الساعة السادسة إلى التاسعة صباحا بتوقيت الساحل الشرقي لأستراليا عبر الراديو الرقمي وتطبيق SBS Radio المتاح مجاناً على